الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **
لما قبض الله نبيه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات علوت رأسه بسيفي هذا وإنما ارتفع إِلى السماء فقرأ أبو بكر فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار فلقيته فاطمة رضي الله عنها وقالت: إِلى أين يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا قال: نعم أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمة فخرج علي حتى أتى أبا بكر فبايعه كذا نقله القاضي جمال الدين بن واصل وأسنده إِلى ابن عبد ربه المغربي. وروى الزهري عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة وذلك بعد ستة أشهر لموت أبيها صلى الله عليه وسلم فأرسل علي إِلى أبي بكر رضي الله عنهما فأتاه في منزله فبايعه وقال علي: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إِليك من فضل وخير ولكنا نرى أنّ لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددت به دوننا وما ننكر فضلك. ولما تولى أبو بكر كان أسامة بن زيد مبرزاً وكان عمر بن الخطاب من جملة جيش أسامة علي ما عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر لأبي بكر: إِن الأنصار تطلب رجلا أقدم سناً من أسامة فوثب أبو بكر وكان جالساً وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب استعمله رسول الله وتأمرني أن أعزله ثم خرج أبو بكر معسكر أسامه وأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لتركبن أو لأنزلن فقال أبو بكر: والله لا تنزل ولا ركبت وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ولما أراد الرجوع قال أبو بكر لأسامة: إِن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن أسامة لعمر بالمقام. وفي أيام أبي بكر ادعت سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية النبوة واتبعها بنو تميم وأخوالها من تغلب وغيرهم من بني ربيعة وقصدت مسيلمة الكذاب ولما وصلت إِليه قصدت الاجتماع به فقال لها: أبعدي أصحابك ففعلت فنزل وضرب لها قبة وطيبها بالبخور واجتمع بها وقالت: له ماذا أوحي إِليك فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وغشى. قالت: وما أنزل الله عليك أيضاً. قال: ألم تر أن الله خلق النساء أفواجاً. وجعل الرجال لهن أزواجاً فتولج فيهن إِيلاجاً. ثم نخرج ما شئنا إِخراجاً. فينتجن لنا إنتاجاً. فقالت: أشهد أنك نبي فقال: هل لك أن أتزوجك قالت: نعم. فقال لها: ألا قومي إلى النيك فقد هيي لك المضجع فإِن شئت ففي البيت وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناَك وإن شئت على أربع وإنْ شئتِ بثلثيه وإن شئت به أجمع فقالت: بل به أجمع يا رسول الله. فقال: بذلك أُوحي إِلي فأقامت عنده ثم انصرفت إِلى قومها ولم تزل سجاح في أخوالها من تغلب حتى نفاهم معاوية عام بويع فيه فأسلمت سجاح وحسن إِسلامها وانتقلت إِلى البصرة وماتت بها. وفي أيام أبي بكر قتل مسيلمة الكذاب وكان أبو بكر قد أرسل إلى قتاله جيشاً وقدَّم عليهم خالد بن الوليد فجرى بينهم قتال شديد وآخره انتصر المسلمون وهزموا المشركين وقتل مسيلمة الكذاب قتله وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وشاركه في قتله رجل من الأنصار وكان مقام مسيلمة باليمامة وكان مسيلمة قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد بني حنيفة فأسلم ثم ارتد وادعى النبوة استقلالاً ثم مشاركة مع النبي صلى الله عليه وسلم وقتل من المسلمين في قتال مسيلمة جماعة من القرّاء من المهاجرين والأنصار ولما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولما تولى عثمان ورأى اختلاف الناس في القرآن كتب من ذلك المكتوب الذي كان عند حفصة نسخاً وأرسلها إلى الأمصار وأبطل ما سواها. وفي أيام أبي بكر منعت بنو يربرع الزكاة وكان كبيرهم مالك بن نويرة وكان ملكاً فارساً مطاعاً شاعراً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم فولاه صدقه قومه فلما منع الزكاة أرسل أبو بكر إِلى مالك المذكور خالد بن الوليد في معنى الزكاة فقال مالك: أنا آتي بالصلاة دون الزكاة: فقال خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً لا تقبل واحدة دون الأخرى فقال مالك: قد كان صاحبكم يقول ذلك. قال خالد: أوما تراه لك صاحبا والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجاولا في الكلام فقال له خالد: إِني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك قال: وهذه بعد تلك وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالداً في أمره فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إِنْ أقلتك وتقدم إِلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه فالتفت مالك إِلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام. فقال مالك: أنا على الإسلام فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه. فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية القدر وكان من أكثر الناس شعراً وقبض خالد امرأته قيل: إِنه اشتراها من الفيء وتزوج بها وقيل إِنها اعتدت بثلاث حيض وتزوج بها وقال لابن عمر ولأبي قتادة: احضرا النكاح فأبيا وقال له ابن عمر: نكتب إِلى أبي بكر ونعلمه بأمرها وتتزوج بها فأبى وتزوجها. وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي: قضى خالد بغياً عليه بعرسه وكان له فيها هوى قبل ذلك فأمضى هواه خالد غير عاطف عنان الهوى عنها ولا متمالك فأصبح ذا أهل وأصبح مالك إِلى غير أهل هالكاً في الهوالك ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إِن خالداً قد زنى فارجمه قال: ما كنت أرجمه فإِنه تأول فأخطأ. قال: فإِنه قد قتل مسلماً فاقتله قال: ما كنت أقتله فإِنه تأول فأخطأ. قال فاعزله قال ما كنت أغمد سيفاً سله الله عليهم. ولما بلغ متمم بن نويرة أخا مالك المذكور مقتل أخيه بكاه وندبه بالأشعار الكثيرة فمن ذلك قصيدة متمم العينية المشهورة التي منها: وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وفي أيام أبي بكر فتحت الحيرة بالأمان على الجزية. فيها كانت وقعة اليرموك وهي الوقعة العظيمة التي كانت سبب فتوح الشام وكانت سنة ثلاث عشرة للهجرة وكان هرقل إذ ذاك بحمص فلما بلغه هزيمة الروم باليرموك رحل عن حمص وجعلها بينه وبين المسلمين ولما فرغ خالد بن الوليد وأبو عبيدة من رقعة اليرموك قصدا بصرى فجمع صاحب بصرى الجموع للملتقى ثم إِن الروم طلبوا الصلح فصولحوا على كل رأس دينار وجريب حنطة. وقد اختلف في سبب موته فقيل إِن اليهود سمته في أرز وقيل في حسوٍ فأكل هو والحارث بن كلدة فقال الحارث: أكلنا طعاماً مسموماً سُم سنة فماتا بعد سنة وعن عائشة رضي الله عنها أنه اغتسل وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة وأمر عمر أن يصلي بالناس وعهد بالخلافة إِلى عمر ثم توفي في مساء ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وعمره ثلاث وستون سنة وغسلته زوجته أسماء بنت عميس وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبر والمنبر وأوصى أن يدفن إِلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حسن القامة خفيف العارضين معروق الوجه غائر العينين ناتئ الجبهة أحنى عاري الأشاجع يخضب بالحناء والكتيم. بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأول خطبة خطبها قال: يا أيها الناس والله ما فيكم أحداً أقوى عندي من الضعيف بم حتى آخذ الحق له ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم أول شيء أمر به أن عزل خالد بن الوليد عن الإِمرة وولى أبا عبيدة على الجيش والشام وأرسل بذلك إِليهما وهو أول من سميَّ بأمير المؤمنين. وكان أبو بكر يخاطب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم سار أبو عبيدة ونازل دمشق وكانت منزلته من جهة باب الجابية ونزل خالد من جهة باب توما وباب شرقي ونزل عمرو بن العاص بناحية أخرى وحاصروهما قريباً من سبعين ليلة وفتح خالد ما يليه بالسيف فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة من الجانب الآخرة وفتحوا له الباب فأمنهم ودخل والتقى مع خالد في وسط البلد وبعث أبو عبيدة بالفتح إِلى عمر وفي أيامه فتح العراق. ثم دخلت سنة أربع عشرة فيها في المحرم أمر عمر ببناء البصرة فاختطت وقيل في سنة خمس عشرة وفيها توفي أبو قحافة أبو أبي بكر الصديق وعمره سبع وتسعون سنة وكانت وفاته بعد وفاة ابنه أبي بكر. ثم دخلت سنة خمس عشرة فيها فتحت حمص بعد دمشق بعد حصار طويل حتى طلب الروم الصلح فصالحهم أبو عبيدة على ما صالح أهل دمشق ثم سار إِلى حماة قال القاضي جمال الدين ابن واصل رحمه الله تعالى في التاريخ الذي نقلنا هذا منه: إِن حماة كانت في زمن داود وسليمان عليهما السلام مدينة عظيمة قال: وقد وجدت ذكرها في أخبار داود وسليمان في كتاب أسفار الملوك الذي بأيدي اليهود وكذلك كانت في زمن اليونان إِلا أنها في زمن الفتوح وقبله كانت صغيرة هي وشيرز وكانا من عمل حمص وكانت حِمص كرسي مملكة هذه البلاد وقد ذكرهما امرؤ القيس في قصيدته التي أولها: سما لك شوق بعدما كان اقصرا ويقول من جملتها: تقطع أسباب اللبانة والهوى عشية جاوزنا حماة وشيزرا قال بعض الشراح: حماة شيزر قريتان من قرى حمص ولما وصل أبو عُبيدة إِلى حماة خرجت الروم التي بها إِليه يطلبون الصلحَ فصالحهم على الجزية لرؤوسهم والخراج على أرضهم وجعل كنيستهم العظمى جامعاً وهو جامع السوق الأعلى من حماة ثم جدد في خلافة المهدي من بني العباس وكان على لوح منه مكتوب أنه جدد من خراج حمص ثم سار أبو عبيدة إِلى شيزر فصالحه أهلها على صلح أهل حماة وكذلك صالح أهل المعرة وكان يقال لها معرة حمص ثم قيل لها معرة النعمان بن بشير الأنصاري لأنها كانت مضافة إِليه مع حمص في خلافة معاوية ثم سار أبو عبيدة إِلى اللاذقية ففتحهما عنوة وفتح جبلة وطرطوس ثم سار أبو عبيدة إِلى قنسرين وكانت كرسي المملكة المنسوبة. اليوم إِلى حلب وكانت حلب من جملة أعمال قنسرين ولما نازلها أبو عبيدة وخالد بن الوليد كان بها جمع عظيم من الروم فجرى بينهم قتال شديد انتصر فيه المسلمون ثم بعد ذلك طلب أهلها الصلح على صلح أهل حمص فأجابهم على أن يخربوا المدينة فخربت. ثم فتح بعد ذلك حلب وإنطاكية ومنبج ودلوك وسرمين وتنزين وعزاز واستولى على الشام من هذه الناحية ثم سار خالد إِلى مرعش ففتحها وأجلى أهلها وأخربها وفتح حصن الحدث وفي هذه السنة لما فتحت هذه البلاد وهي سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة أيس هرقل من الشام وسار إِلى قسطنطينية من إثرها ولما سار هرقل على نشر من الأرض ثم التفت إِلى الشام وقال: السلام عليك يا سوريا سلام لا اجتماع بعده ولا يعود إِليك رومي بعدها إِلا خائفاً حتى يولد لولد المشؤوم وليته لم يولد فأجل فعله فتنته على الروم ثم. فتحت قيسارية وصبصطية وبها قبر يحيى بن زكريا ونابلس واللد ويافا وتلك البلاد جميعها. وأما بيت المقدس فطال حصاره وطلب أهله من أبي عبيدة أن يصالحهم على صلح أهل الشام بشرط أنْ يكون عمر بن الخطاب متولي أمر الصلح فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر رضي الله عنه إلى القدس وفتحها واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وضع عمر بن الخطاب الدواوين وفرض العطاء للمسلمين ولم يكن قبل ذلك وقيل: كان ذلك سنة عشرين فقيل له: ابدأ بنفسك. فامتنع وبدأ بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرض له خمسة وعشرين ألفاً ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من رسول من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف وفرض لمن بعدهم إِلى الحديبية وبيعة الرضوان أربعة آلاف أربعة آلاف ثم لمن بعدهم ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف وفرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفاً ألفاً ولروادفهم خمس مائهَ خمس مائة ثم ثلاثمائة ثلاثمائة ثم مائتين وخمسين مائتين وخمسين. وكان في هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وقعة القادسية وكان المتولي لحرب الأعاجم فيها سعد بن أبي وقاص وكان مقدم العجم رستم وجرى بين المسلمين وبين الأعاجم إِذ ذاك قتال عظيم دام أياماً فكان اليوم الأول يوم أغواث ثم يوم غماس ثم ليلة الهرير لتركهم الكلام فيها وإنما كانوا يهرون هريراً حتى أصبح الصباح ودام القتال إلى الظهيرة وهبت ريح عاصفة فأكل الغبار على المشركين فانكسروا وانتهى القعقاع وأصحابه إِلى سرير رستم وقد قام رستم عنه واستظل تحت بغال عليها مال وصلت من كسرى للنفقة فلما شدوا على رستم هرب ولحقه هلال بن علقمة فأخذ برجله وقتله ثم جاء به حتى رُمي به بين أرجل البغال وصعد السرير ونادى: قتلت رستم ورب الكعبة وتمت الهزيمة على العجم وقتل منهم ما لا يحصى ثم ارتحل سعد ونزل غربي دجلة على نهر شير قبالة مدائن كسرى وديوانه المشهور ولما شاهد المسلمون إيوان كسرى كبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله. ثم دخلت سنة ست عشرة وأقام سعد على نهر شير إِلى أيام من صفر ثم عبروا دجلة وهربت الفرس من المدائن نحو حلوان وكان يزد جرد قد قدم عياله إِلى حلوان وخرج هو ومن معه بما قدروا عليه من المتاع ودخل المسلمون المدائن وقتلوا كل من وجدوه واحتاطوا بالقصر الأبيض ونزل به سعد واتخذوا إِيران كسرى مصلى واحتاطوا على أموال من ذهب والآنية والثياب تخرج عن الإحصاء وأدرك بعض المسلمين بغلاً وقع في الماء فوجد عليه حلية كسرى من التاج والمنطقة والدرع وغير ذلك كله مكلل بالجوهر ووجدوا أشياء يطول شرحها. وكان لكسرى بساط طوله ستون ذراعاً في ستين ذراعاً وكان على هيئة روضة قد صورت فيه الزهور بالجوهر على قضبان الذهب فاستوهب سعد ما يخص أصحابه منه وبعث به إِلى عمر فقطعه عمر وقسمه بين المسلمين فأصاب علي بن أبي طالب منه قطعة فباعها بعشرين ألف درهم. وأقام سعد بالمدائن وأرسل جيشاً إلى جلولاء وكان قد اجتمع بها الفرس فانتصر المسلمون وقتلوا من الفرس ما لا يحصى وهذه الوقعة هي المعروفة بوقعة جلولاء وكان يزد جرد بحلوان فسار عنها وقصدها المسلمون واستولوا عليها ثم فتح المسلمون تكريت والموصل. ثم فتحوا ما سبذان عنوة وكذلك قرقيسيا. وفي هذه السنة أعني سنة ست عشرة للهجرة قدم جبلة بن الأيهم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتلقاه جماعة من المسلمين ودخل في زي حسن وبين يديه جنائب مقادة ولبس أصحابه الديباج ثم خرج عمر إِلى الحج في هذه السنة فحج جبلة معه فبينما جبلة طائفاً إِذ وطئ رجل من فزازة على إِزاره فلطمه جبلة فهشم أنفه فأقبل الفزاري إِلى عمر وشكاه فأحضره عمر وقال: افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة فقال عمر: إِن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد. فقال جبلة: كنت أظن أني بالإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع عنك هذا. فقال جبلة أتنصر. فقال عمر: إِن تنصرت ضربت عنقك. فقال أنظرني ليلتي هذه فأنظره فلما جاء الليل سار جبلة بخيله ورجاله إِلى الشام ثم صار إِلى القسطنطينية وتبعه خمس مائة رجل من قومه فتنصروا عن آخرهم وفرح هرقل بهم وأكرمه ثم ندم جبلة على فعله ذلك وقال: تنصرت الأشراف مِنْ عار لطمة ** وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكنفنيَ فيها لجاج ونخوة ** وبعت لها العينَ الصحيحة بالعورْ فيا ليتَ أمي لم تلدني وليتني ** رجعت إِلى القولِ الذي قاله عمرْ وكان قد مضى رسول عمر إلى هرقل وشاهد ما هو فيه جبلة من النعمة فأرسل جبلة خمس مائة دينار لحسان ابن ثابت وأوصلها عمر إليه ومدحه حسان ابن ثابت بأبيات منها: إِن ابن جفنة من بقية معشرِ ** لم يعرُّهم أباؤهم باللوم لم ينسني بالشام إذ هَو ربها ** كلا ولا متنصراً بالروم يعطي الجزيل ولا يراه عنده ** إِلا كبعض عطية المذموم ثم دخلت سنة سبع عشرة فيها اختطت الكوفة وتحوّل سعد إليها وفي هذه السنة اعتمر عمر وأقام بمكة عشرين ليلة ووسع في المسجد الحرام وهدم منازل قوم أبوا أن يبيعوها وجعل أثمانها في بيت المال وتوج أم كلثوم بنت علي ابن أبي طالب وأمها فاطمة رضي الله عنهما. وفي هذه السنة كانت واقعة المغيرة بن شعبة وهي أن المغيرة كان عمر قد ولاه البصرة وكان في قبالة العليّة التي فيها المغيرة بن شعبة علية فيها أربعة وهم: أبو بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه لأمه زياد بن أبيه ونافع بن كلدة وشبل بن معبد فرفعت الريح الكوة عن العلية فنظروا إِلى المغيرة وهو على أم جميل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة وكانت تغشى المغيرة فكتبوا إلى عمر بذلك فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود وولى البصرة أبا موسى الأشعري فلما قدم إِلى عمر شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة بالزنا وأما زياد بن أبيه فلم يفصح شهادة الزنا وكان عمر قد قال قبل أن يشهد: أرى رجلاً أرجو أن لا يفضح الله به رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زياد: رأيته جالساً بين رجلي امرأة ورأيت رِجلين مرفوعتين كأذني حمار ونفساً يعلو وإستاً تنبو عن ذكر ولا أعرف ما وراء ذلك. فقال عمر هل رأيت الميل في المكحلة قال: لا. فقال: هل تعرف المرأة قال: لا ولكن أشبهها. فأمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا بالزنا أن يحدوا حد القذف فجلدوا وكان زياد أخا أبي بكرة وفيها فتح المسلمون الأهواز وكان قد استولى عليها الهرمزان وكان من عظماء الفرس ثم فتحوا رام هرمز وتستر وتحصن الهرمزان في القلعة وحاصروه فطلب الصلح على حكم عمر فأنزل على ذلك وأرسلوا به إِلى عمر ومعه وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس فلما وصلوا به إِلى المدينة ألبسوه كسوته من الديباج المذهب ووضعوا على رأسه تاجه وهو مكلل بالياقوت ليراه عمر والمسلمون فطلبوا عمر فلم يجدوه فسألوا عنه فقيل جالس في المسجد فأتوه وهو نائم فجلسوا دونه فقال الهرمزان: أين هو عمر: قالوا: هوذا. قال: فأين حرسه وحجابه قالوا ليس له حارس ولا حاجب واستيقظ عمر على جلبة الناس فنظر إِلى الهرمزان وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه وأمر بنزع ما عليه فنزعوه وألبسوه ثوباً ضيقاً فقال له عمر: كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله فقال الهرمزان: نحن وإياكم في الجاهلية لما خلى الله بيننا وبينكم غلبناكم ولما كان الله الآن معكم غلبتمونا. ودار بينهما الكلام وطلب الهرمزان ماء فأتي به فقال: أخاف أن تقتلني وأنا أشرب فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشرب فرمى بالإناء فانكسر فقصد عمر قتله فقالت الصحابة: إِنك أمنته بقولك لا بأس عليك إِلى أن تشرب ولم يشرب ذلك الماء وآخر الأمر أنّ الهرمزان أسلم وفرض له عمر ألفين. ثم دخلت سنة ثماني عشرة فيها حصل في المدينة والحجاز قحط عظيم فكتب عمر إِلى سائر الأمصار يستعينهم فكان ممن قدم عليه أبو عبيدة من الشام بأربعة آلاف راحلة من الزاد وقسم عمر ذلك على المسلمين حتى رخص الطعام بالمدينة ولما اشتد القحط خرج عمر ومعه العباس وجمع الناس واستسقى مستشفعاً بالعباس فما رجع الناس حتى تداركت السحب وأمطروا وأقبل الناس يتمسحون بأذيال العباس رضي الله عنه. وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة كان طاعون عم الناس بالشام مات به أبو عبيدة بن الجراح واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري أحد العشرة المشهود لهم بالجنة واستخلف أبو عبيدة على الناس معاذ بن جبل الأنصاري فمات أيضاً بالطاعون واستخلف عمرو بن العاص ومات من الناس في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألف نفس فطال مكثه شهراً وطمع العدو في المسلمين وأصاب بالبصرة مثله. وفي هذه السنة سار عمر إِلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا ثم رجع إِلى المدينة في ذي القعدة. ثم دخلت سنة تسع عشرة وسنة عشرين فيها فتحت مصر والإسكندرية على يد عمرو بن العاص والزبير بن العوام فنازلا عين شمس وهي بقرب المطرية وكان لها جمعهم ففتحاها وبعث عمرو بن العاص أبرهة بن الصباح إلى الفرماء وضرب عمرو فسطاطه موضع جامع عمرو بمصر الآن واختطت مصر وبني موضع الفسطاط الجامع المعروف بجامع عمرو بن العاص. ثم توجه إِلى الإِسكندرية ففتحها عنوة بعد قتال كثير وفيها أعني سنة عشرين توفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولى أبي بكر الصديق واسم أمه حمامة وهو من مولدي الحبشة أسلم بعد إِسلام أبي بكر الصديق ولم يؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب من أبي بكر أن يرسله إِلى الجهاد فسأله أبو بكر أن يقيم معه فأقام معه حتى تولى عمر فسأله عمر ذلك فأبى بلال وسار إِلى دمشق وأقام بها حتى مات ودفن عند الباب الصغير. فيها كانت وقعة نهاوند مع الأعاجم وكان قد اجتمعوا في مائة وخمسين ألفاً ومقدمهم الفيرزان فجرى بينهم وبين المسلمين حروب كثيرة آخرها أن المسلمين هزموا الأعاجم وأفنوهم قتلاً وهرب الفيرزان مقدم جيش الأعاجم فلما وصل إِلى ثنية همذان وجد بغالاً محملة عسلاً فلم يقدر على المضي فنزل عن فرسه وهرب في الجبل فتبعه القعقاع راجلاً وقتله فقال المسلمون إِن لله جنداً من عسل. وفي هذه السنة فتحت الدينور والصيميرة وهمذان وأصفهان. وفي هذه السنة توفي خالد بن الوليد ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين فيها فتحت أذربيجان والري وجرجان فزوين وزنجان وطبرستان. وفيها سار عمرو بن العاص إِلى برقة فصالحه أهلها على الجزية ثم سار إِلى طرابلس الغرب فحاصرها وفتحها عنوة. وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان وحارب يزد جرد وافتتح هراة عنوة ثم سار إِلى مرو روز وكتب يزد جرد إِلى ملك الترك يستمده وإلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهما وانهزم يزد جرد إلى بلخ ثم سار إِليه المسلمون فهزموه وعبر يزد جرد نهر جيحون ثم إِن يزد جرد اختلف هو وعسكره فإِنه أشار بالمقام مع الترك وأشار عسكره بمصالحة المسلمين والدخول في حكمهم فأبى يزد جرد ذلك فطرده عسكره وأخذوا خزانته وسار يزد جرد مع الترك في حاشيته وأقام بفرغانة زمن عمر كله وبقي عسكره في أماكنهم وصالحوا المسلمين. وفيها توفي أبي بن كعب بن قيس وهو من ولد مالك بن النجار وكان يكنى أبا المنذر أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يقرأ القرآن على أبي بن كعب المذكور وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرأ أمتي أُبي
|